Ahmed Naje
وداخل الحدود.. هناك حدود آخري
29-11-2012

 في اليوم الأخير، في تلك المدينة البلجيكية الصغيرة. بعد التخفف من ضغط مواعيد تسليم المقالات اليوم. بدا لدى مجموعة الكتاب الشباب قدر أكبر من الوقت، ومساحة للراحة والتملل والتأمل.

كان هذا أكثر يوم تمكنا فيه من الحديث مع بعضنا البعض مجموعة الكتاب والمترجمين المشاركين، وفي نهاية السهرة بدت “يان” أخيراً أكثر هدوءاً وأقل تواتراً. المدهش أكثر حينما بدأت لأول مرة تحكى عن حياتها في الصين، وذلك الاغتراب وصعوبة الاندماج في نسق اجتماعى العنف المعنوى أحد قيمه الأساسية. ما كانت تحكيه “يان” بدا لى وكأنه مشابهه إلى حد قريب من التركيبة الاجتماعية التى تعودت عليها في مصر.

في الطائرة، استعدت حديثي مع “يان” خصوصاً ذلك الجزء الخاص بطبيعة ونوع الإيمان الذي قد يحتاجه الكاتب في مجتمعات مزدوجة القيم كتلك التى نعيش فيها. حينما وصلت للقاهرة تم إيقافي كالعادة لنصف ساعة في المطار. فبسبب مسألة سياسية سخيفة قديمة تم وضع اسمى فيما يعرف بقوائم الترقب، وهكذا على مدار سنوات منذ 2008 فكل مرة أخرج أو أدخل فيها البلاد عابراً الحدود يجب على ضابط الجمارك والجوازات أن يقوم بتبليغ الأمن الوطنى وجهاز المخابرات وأمن المطارات أنى قد دخلت أو خرجت من الحدود.

كان هذا الوضع بالنسبة لى في عهد مبارك ومازال مستمراً حتى الآن. ذات مرة تحدثت مع الضابط المسئول: “لماذا يحدث هذا يقولون أن هناك ثورة حدثت في البلد؟” فكان رده أنه لا حل لهذه المشكلة.

أعود من مهرجان “عبور الحدود” حيث تبدو ذكرياتى عن أيام المهرجان حميمية وخاصة، ربما لولا ظروف الطقس والانفلونزا لشعرت أنى كنت في المنزل مع مجموعة من الضيوف والأصدقاء الرائعين. لكن هنا داخل حدود ما يعرف بالوطن، تبدو الحدود غير المرئية بين الجماعات أقسي وأشرس كثيراً من تلك الحدود المرسومة على الخرائط.

أكتب هذا المقال الآن بذهن مشتت بين أكثر من حدث وأكثر من فكرة، أحاول استعادة أيام لاهاى وبلجيكا القليلة، وأفكر في الاستعدادات لمظاهرات يوم السبت القادم، وفي التلفزيون أمامى يجلس مجموعة من الكاذبيين ينتمون إلى فصيل الاسلام السلطوى ووسط رفض شعبي ينهون كتابة ما يطلقون عليه “دستور مصر القادم”. وهو في المجمل مجموعة من القوانين المكبلة لكل الحريات من حرية العقيدة حتى حرية التعبير، وثيقة سلطوية بامتياز لم يكن هتلر ليحلم بها.

هذه المرة الخلافات السياسية تتجاوز إطار النخب السياسية وتصنع شرخاً عميقاً في المجتمع. منذ عودتى من “مهرجان عبور الحدود” تتوالى أخبار الاشتباكات العنيفة في كل مكان ليس فقط في العاصمة، والجرائد تتحدث عن استعدادات لحرب أهلية يوم السبت حيث المواجهه بين المؤيدين لتنصيب ديكتاتور جديد والرافضين.

سوف أنزل مظاهرات يوم السبت الرافضة للديكتاتورية الجديدة. لكن في الوقت نفسه أفكر في والدى عضو جماعة الإخوان المسلمين والذي استعادت علاقتنا في السنوات الأخيرة إيقاع هادئ حيث توقفنا عن النقاش في كل ما يتعلق بالسياسة. اتساءل هل سيأتى فعلا مع الجماعة يوم السبت لتأييد قرارات الديكتاتور الجديد؟

حتى الآن مظاهرات السبت مرشحة لأن تكون بعيدة تماماً عن السلمية، أعرف ذلك بشكل يقينى، وإن كنت لا أجد مخرجاً من أزمتى الخاصة، ولا أعرف كيف يمكن عبور الحدود بينى وبينه في منطقة لا يسعى فيها أحدنا للتسلط على الآخر.

Ahmed Naje
وداخل الحدود.. هناك حدود آخري
29-11-12

 في اليوم الأخير، في تلك المدينة البلجيكية الصغيرة. بعد التخفف من ضغط مواعيد تسليم المقالات اليوم. بدا لدى مجموعة الكتاب الشباب قدر أكبر من الوقت، ومساحة للراحة والتملل والتأمل.

كان هذا أكثر يوم تمكنا فيه من الحديث مع بعضنا البعض مجموعة الكتاب والمترجمين المشاركين، وفي نهاية السهرة بدت “يان” أخيراً أكثر هدوءاً وأقل تواتراً. المدهش أكثر حينما بدأت لأول مرة تحكى عن حياتها في الصين، وذلك الاغتراب وصعوبة الاندماج في نسق اجتماعى العنف المعنوى أحد قيمه الأساسية. ما كانت تحكيه “يان” بدا لى وكأنه مشابهه إلى حد قريب من التركيبة الاجتماعية التى تعودت عليها في مصر.

في الطائرة، استعدت حديثي مع “يان” خصوصاً ذلك الجزء الخاص بطبيعة ونوع الإيمان الذي قد يحتاجه الكاتب في مجتمعات مزدوجة القيم كتلك التى نعيش فيها. حينما وصلت للقاهرة تم إيقافي كالعادة لنصف ساعة في المطار. فبسبب مسألة سياسية سخيفة قديمة تم وضع اسمى فيما يعرف بقوائم الترقب، وهكذا على مدار سنوات منذ 2008 فكل مرة أخرج أو أدخل فيها البلاد عابراً الحدود يجب على ضابط الجمارك والجوازات أن يقوم بتبليغ الأمن الوطنى وجهاز المخابرات وأمن المطارات أنى قد دخلت أو خرجت من الحدود.

كان هذا الوضع بالنسبة لى في عهد مبارك ومازال مستمراً حتى الآن. ذات مرة تحدثت مع الضابط المسئول: “لماذا يحدث هذا يقولون أن هناك ثورة حدثت في البلد؟” فكان رده أنه لا حل لهذه المشكلة.

أعود من مهرجان “عبور الحدود” حيث تبدو ذكرياتى عن أيام المهرجان حميمية وخاصة، ربما لولا ظروف الطقس والانفلونزا لشعرت أنى كنت في المنزل مع مجموعة من الضيوف والأصدقاء الرائعين. لكن هنا داخل حدود ما يعرف بالوطن، تبدو الحدود غير المرئية بين الجماعات أقسي وأشرس كثيراً من تلك الحدود المرسومة على الخرائط.

أكتب هذا المقال الآن بذهن مشتت بين أكثر من حدث وأكثر من فكرة، أحاول استعادة أيام لاهاى وبلجيكا القليلة، وأفكر في الاستعدادات لمظاهرات يوم السبت القادم، وفي التلفزيون أمامى يجلس مجموعة من الكاذبيين ينتمون إلى فصيل الاسلام السلطوى ووسط رفض شعبي ينهون كتابة ما يطلقون عليه “دستور مصر القادم”. وهو في المجمل مجموعة من القوانين المكبلة لكل الحريات من حرية العقيدة حتى حرية التعبير، وثيقة سلطوية بامتياز لم يكن هتلر ليحلم بها.

هذه المرة الخلافات السياسية تتجاوز إطار النخب السياسية وتصنع شرخاً عميقاً في المجتمع. منذ عودتى من “مهرجان عبور الحدود” تتوالى أخبار الاشتباكات العنيفة في كل مكان ليس فقط في العاصمة، والجرائد تتحدث عن استعدادات لحرب أهلية يوم السبت حيث المواجهه بين المؤيدين لتنصيب ديكتاتور جديد والرافضين.

سوف أنزل مظاهرات يوم السبت الرافضة للديكتاتورية الجديدة. لكن في الوقت نفسه أفكر في والدى عضو جماعة الإخوان المسلمين والذي استعادت علاقتنا في السنوات الأخيرة إيقاع هادئ حيث توقفنا عن النقاش في كل ما يتعلق بالسياسة. اتساءل هل سيأتى فعلا مع الجماعة يوم السبت لتأييد قرارات الديكتاتور الجديد؟

حتى الآن مظاهرات السبت مرشحة لأن تكون بعيدة تماماً عن السلمية، أعرف ذلك بشكل يقينى، وإن كنت لا أجد مخرجاً من أزمتى الخاصة، ولا أعرف كيف يمكن عبور الحدود بينى وبينه في منطقة لا يسعى فيها أحدنا للتسلط على الآخر.

ما يمكن فعله بعد عبور الحدود؟
18-11-12

بدأت أتعافي من دوار البرد الذي أصابنى، الفضل لـ”يسا” ولهذا الدواء الغريب ذو الحبيبات الشفافة.

قضيت معظم الوقت بالأمس في الفراش أقرأ مقالات الكتاب الآخرين، وقد أبهرنى التنوع الذي تحمله، ما بينى خفة الدم التلقائية لدى “يان” إلى القدرة على التحليل الثقافي والتاريخى لدى “مارك” وأخيرا “كيفا موديري” بألعابة الروائية والفنية المبهرة، وهذا العلاقات المركبة التى يخلقها بينه وبين الشخصيات التى يكتب عنها.

قررت أخيراً الخروج من الغرفة أمس في تمام الساعة خمسة، لتناول الغذاء والتمشية قليلاً قبل موعد القراءة. مع أول نسمة هواء باردة على وجهى، عطست عطسة قوية.

“أوه ليس مرة ثانية”

ظننت أنى سافرت عبر الزمن، أو تجددت الحمى مرة آخري حيث ظننت أن ما أراه هو هلاوس من اختلاقي، كان هناك في الشارع موكب عظيم يسير فيها مئات الأشخاص يرتدون ملابس ملونة زاهية تعود لقرون مضت، معظمهم لسبب ما يضع حلقان ذهبية في الأذن اليمنى، ويسيرون في الشارع وسط احتفاء  المارة.

كان هناك موسيقي وأنواع غريبة من الحيوانات منها كائن يقع في مسافة فاصلة بين الحمار والمعزة، إلى جانب أن الخيول كانت أقصر وأسمن مما اعتدت رؤيته، وفي منتصف كل هذا عبرت سيارة تسير بالطاقة البخارية. كان هذا كرنفال سانت نيكولاس.

بدأت أفعل مثلما يفعل الجمهور حولى، أخرجت الموبيل وبدأت في التقاط الصور والابتسام وتلقي الحلوى والهدايا من العبيد السود. أليس هذا هو التفاعل مع الآخر؟ والتعرف على الحضارات والثقافات الآخري؟

هل يجب حقاً أن يكون التفاعل مع الآخر يبدأ بالاستغراب، ثم ادعاء محاولة الفهم، ثم التقليد؟

لم ترق لى الحلوى التى حصلت عليها وكانت بطعم القرفة، ولم أشعر بارتياح وأنا أشاهد مئات الأشخاص مصبوغين باللون الأسود في بلد له تاريخ قديم في تجارة الرقيق من أفريقيا.

قرأت قبل ذلك أن هذا الاحتفال يثير جدل العنصرية كل عام، وكنت أفكر في المسألة وأقلبها يميناً ويساراً وأنا أصعد سلالم المسرح الوطنى متوجهاً نحو الطابق الأخير، حيث الجنة… أو قاعة الجنة.

عبور الحدود لا يعنى أبداً التسامح أو الرضا عن كل ما ستجده، مثلما بالتأكيد لا تشعر بالرضا والتوافق التام اتجاه المكان الذي تأتى منه، أحياناً يكون النقد والنظر بشكل أعمق إلى ما تحت الأغطية والملابس الملونة مفتاح لعبور حدود آخرى تقبع داخلك، حدود تصوراتك عن العالم وفهمك له، وتخطى الصور النمطية عن الأشياء.

حينما وصلت إلى قاعة الجنة كان فيلم “Kaweh Modiri” يعرض على شاشة صغيرة الفيلم الذي يحكى حكاية روائي يعيش في امستردام يتعقب كقاتل محترف أحد الأشقياء بعد سرقته لجهاز الكمبيوتر الشخصي الخاص به. بدا لى فيلم موديري أقرب إلى قلبي بحبكته المعقدة وشخصياته التى تلهو في متاهة عبثية في شوارع امستردام. رأيت في الفيلم صورة أكثر تعقيداً وإثارة من تلك التى تظهر في المهرجانات والأدلة السياحية.

حينما كنت أغادر الفندق في لاهاى، وكعادة قديمة، أخذت أقلب في الكروت التذكارية حيث أجمعها من كل بلد أسافر إليها، كان هناك صور لطواحين ومراعى خضراء وتماثيل لشخصيات تاريخية ومناظر طبيعية. لم أنجذب لأى منها ولم اشتر كارت تذكاري، تمنيت عوضاً ذلك لو وجدت صورة “لعمر عمر” بطل فيلم موديري. ربما هذا يمثل هولندا أكثر بالنسبة لى.

التداوى بالماء والملح
17-11-12

في الطريق إلى المسرح الوطنى مساء أمس بدأت أشعر أن هناك أمر ليس على ما يرام، أعرف هذا الاحتقان في الحلق، ونحن في شهر نوفمبر المخيف.

وصلت متأخراً إلى مسرح الوطنى بعد أن أخذت أكثر من 20 دقيقة، أبحث فيها عن الباب الصحيح. في النهاية أنقذتنى واحدة من طاقم المهرجان، قادتنى عبر دهاليز طويلة. عبرنا من قاعات صغيرة إلى قاعات كبيرة، مع كل ممر كنا نعبره كان صوت موسيقي مختلفة يرتطم بأذنى.

بدا كأن المكان غابة متشابكة معقدة ممتلأة بالبشر، لم أكن لأصل أبداً بمفردى، لكن بمساعدة السيدة مجهولة الاسم وصلت في الموعد المناسب إلى “قاعة النصر” حيث كان يجب أن اقرأ مع الكتاب والمترجمين الآخرين.

بعد انتهاء جلستنا في “قاعة النصر” خرجت بدون خريطة ولا أعرف إلى أين. كنت أحاول الخروج من المسرح، لكن في الوقت ذاته بدأت أشعر بإرهاق الانفلونزا، وارتفاع درجة الحرارة. فتحت باب ضخم وجدته أمامى فوجدت نفسي في الدور الثانى من المسرح الكبير، جلست على أحد الكراسي لاستريح ثم دخل مغنى كبير السن بصحبة عازف بيانو، كان يغنى بصوت حزين كأنه “سيلين ديون” تغرق فوق سفينة على مقربة من شاطيء لاهاى. درجة حرارتى بدأت ترتفع. الآن كنت متيقناً أنا أصبت بالانفلونزا، وسأقضي ليلية بين الفراش والحمام دون أدويتى، وسط الحمى وهلوساته.

لكن بدأت أشك في أن كل هذا حقيقياً. خرجت من القاعة بحثاً عن باب الخروج، لكن وجدت نفسي في قاعة آخري ترتفع منه إيقاعات موسيقية كأنها عازفين روك يحاولون أن يلعبوا موسيقي البلوز.

في زاوية ما كان هناك طاولة رصت عليها أسطوانات متعددة معظمها كان لفرق وموسيقيين هولنديين، لم استطيع قراءة الأسماء، لكنى أعتقد أن ظللت لأكثر من نصف ساعة أتأمل اللوحات والبوسترات، ثم انتبهت أن جميع جدران المسرح مغطاة بلوحات بعضها فوتوغرافيا وبعضها رسومات زيتية.

تضاعف احتقان الحلق، وبدأت اشعر وكأن هناك نهر صغير يخرج من أنفي. كل ما كنت أفكر فيه هو العودة إلى الفندق. أخذت أبحث عن مخرج، لكن كلما دخلت من باب وجدت نفسي في ممر يفضى إلى قاعة جديدة، أو مسرح صغير.

إذا هذا ما يبدو عليه الأمر بعد عبور الحدود، تختلط الحقائق بالخيال، تتوه معانى اللغات لكن تتبقي الصور التى تخلقها.

أخيراً، وجدت باب الخروج، لكن مع أول خطوة للخارج عطست بقوة. قضي الأمر. كان الجو بارداً لكنى وصلت إلى الفندق. استيقظت في الصباح كأن هناك حجر في حلقي، ذهبت إلى قاعة الافطار حيث قابلت وئام علمت منها أننى لست الوحيد في المجموعة الذي يعانى من أعراض البرد. لكن المشكلة أن أدويتى ليست معى. بعد ترددها المعتاد نصحتنى وئام بالغرغرة بماء دافيء مع ملح.

أشعر بحزن بالغ كنت أخطط اليوم للذهاب إلى البحر، لكن أقسي أمنياتى الآن استعادة صوتى الطبيعى استعداداً للقراءة مساءاً.

من لاهاى إلى الهيج
16-11-12

تحمل مدينة “الهيج” بالعربية اسم آخر هو “لاهاى”. وهو اسم له شهرة وشعبية واسعة في العربية بسبب ارتباطه بمحكمة العدل الدولية. اتذكر منذ عدة أسابيع كنت أشاهد فيلماً وثائقياً عن “الفن والثورة” في سوريا حينما سمعت أغنية يرددها المتظاهرون هناك تقول “يا بشار باى باى.. بدنا نشوفك في لاهاى”.

لكن كيف وصل هذا الاسم إلى اللغة العربية “لاهاى” والذى لا يرتبط باسم المدينة في اللغة الهولندية أو حتى الانجليزية؟

الإجابة أنه ولسبب ما، عرف العرب المدينة لأول مرة خلال القرن التاسع عشر، حينما كانت خاضعة للاحتلال الفرنسي، وبالتالى انتقل اسم المدينة لا عن طريق الترجمة المباشرة من الهولندية إلى العربية بل عن طريق لغة وسيطة هى الفرنسية. وحيث أن الفرنسيين يطلقون عليها “لاهاى” دخل الاسم إلى العربية.

هذه الأمثولة الظريفة تعطينا مثالاً حول ألعاب ومخَاطر الترجمة، خصوصاً إذا كانت عبر لغة وسيطة.

وبالأمس كان هناك درس آخر. فحينما التقيت مع الكتاب الآخرين والمترجمين لتناول العشاء، كانت الانجليزية هى اللغة المسيطرة على الحديث. لكن الأسماء لا يمكن ترجمتها إلى الانجليزية. ومع أربعة كتاب من خلفيات لغوية مُتبَاينة يصبح الأمر كوميدياً حينما يكرر كل شخص اسمه مرتين على الأقل لكى يستطيع الشخص الآخر نطقه بالشكل الصحيح.

“يان جى” كانت الأطرف على الاطلاق حينما كانت تقدم نفسها قائلة “يان.. كالعملة اليابانية”.

سوء التفاهم هذا في ترجمة أسماء الأشخاص أو المدن، هو أحد مفاتيح عبور الحدود بين الأشخاص. فالأسماء التى لا يمكن ترجمتها وتبدو بلا معنى في الانجليزية تحمل دلالات ومعانى في لغتها الأصلية. ولهذا فبعد  مرحلة النطق الصحيح لاسم “يان جى” و ” Kaweh” تأتى مرحلة معرفة معنى الاسم، والحكايات التى تتستر خلفه. فيان جى ليس اسم العملة اليابانية بل يعنى “الأغنية الملونة”. و ” Kaweh ” يحمل هذا الاسم نسبة إلى بطل أسطورى فارسي.

-هل أنت فارسي؟

-نعم لكن غادرت وأنا عمرى خمس سنوات.

يحكى حكاية، فيرد عليه شخص آخر على الطاولة بحكاية آخرى، تسقط الحدود بين أفراد المجموعة شيئاً فشيئاً. ربما يكون للترجمة مخاطر أو صعوبات أو أخطاء لكن الحكايات التى تحملها الترجمة هى المعنى الحقيقي لعبور الحدود.

حياة الأوغاد
05-11-12

كتب أحدهم على جدار مواجه لقسم شرطة حى الزمالك –أحد الأحياء البرجوازية في القاهرة- العبارة التالية: “إن حياة الفرد الأخلاقي تقوم على احتذاء النظام الخلقي الكونى، أما حياة الأوغاد فتقوم على معاكسة ذلك النظام الكونى”. بجوار تتلك العبارة رُسم جرافيتى ضخم لوجه الأسطورة الشعبية “الهرم” وهو يلف بين أصابعه سيجارة حشيش بينما أحاطت برأسه هالة كهالة القديسين.

“الهرم” هو أحد الأساطير الشعبية المعاصرة في مصر، ويصنف في مناطق بصفته إله “الديلارات” والدهاء. وفي مناطق شعبية تباع أيقونات صغيرة “للهرم” عليها الآية القرآنية “فأغشيناهم فهم لا يبصرون” حيث من يرتدى الأيقونة يحميه ظل الهرم من عيون ضباط الشرطة والأفراد الأخلاقيين وكلاب النظام الخُلقي الكونى.

لكن العبارة الفلسفية والعميقة المصاحبة للرسم، ليست من أقوال الهرم. ولم يعرف من صاحبها، ولما تستخدم بجوار أيقونة “الهرم”؟

كان هذا في الفترة التى تلت أحداث 25 و 28 يناير. وكانت جدران القاهرة تعج بآلاف الكتابات والرسومات معظمها ذات صبغة سياسية، لكن جرافيتى “الهرم” وبجواره العبارة الملغزة ظل شرخاً عميقاً في المشهد وهرمونية الروح الوطنية والثورية التى غطت البلاد في هذا الوقت.

** *

هناك أكثر من عالم.

ولكل مسألة أكثر من طبقة وزاوية. في النظام الخلقي الكونى هناك انشغال بالديمقراطية، الثورة، كرامة نبي، فيلم مسيء، كلاب تنبح، ديون وقروض ودول تشهر إفلاسها، صراعات تدور على الشاشة ونشرات الأخبار. لكننا هنا في حياة الأوغاد ندرك أن هذه الأوهام ليست سوى التمثيل الكاذب للحياة.

بينما يتحدثون في النظام الأخلاقي عن أهمية الأدب والموسيقي في التواصل الحضارى بين الشعوب وحوار الحضارات، ندرك أنه لا حاجة لهذا الدفع أو التوجيه من قبل “النظام” لكى يكون الأدب والموسيقي في هذا الاتجاه.

في مصر نمت في السنوات الأخيرة موسيقي الأوغاد، أو ما يعرف بموسيقي المهرجانات وهى نوع موسيقي يختلط فيه إيقاع الهيب هوب، بألعاب الأصوات الألكترونية بأصوات النجوم الأوغاد. يتم تسجيل هذه الأغانى في منازل وعشش  وإضاءة خافتة للشوارع الخلفية، والكلمات منفلتة عن كل الأطر الأخلاقية والنظامية المعتادة.

دون الحاجة إلى التوجيه اكتشفت مؤخراً تشابه غير معقول بين تلك الموسيقي المخلقة في حوارى القاهرة الشعبية، وبين نوع آخر من موسيقي العصابات يزدهر بجنون في البرازيل.

أى حدود يجب تجاوزها إذن؟

الحدود الحقيقية لا تقع بين اللغات المختلفة أو بين الدول ذات أنظمة منح “الفيزا” المختلفة. بل بين نظامين؛

 الأول أخلاقي وكونى يفرض صوراً نمطية بين البشر أفراداً وأمماً ثم يدعى بأنهم جميعاً بشر لهم نفس الحقوق وحباً في الخير ومصلحة الكون يدفعهم لما يقول عنه “حوار” قالبه الأساسي التنافس والملكية.

والثانى هو حياة الأوغاد حيث الفرد مكتملاً في ذاته، ويستمد حريته وطاقة المغامرة لاستكشاف الحياة من معاكسة هذا النظام الكونى، لا بهدف تقويضة أو تفجيرة من الداخل، بل من أجل تللك اللذة السرية الصغيرة.

لكن تلك اللذة السرية ليست كل شيء فهناك الجانب الآخر، أو كما يقول أحد سكان المدينة الأوغاد بالعامية المصرية: “في الحالة دى مفيش آمان، حياتك بتبقي زى القمار، طالع نازل، لما تسيب حبة ريح توديك وتجيبك، لما تجريك لقمة عيش أو ريحة خطر، لما تعس نهارك وليلك من غير ما تولف راسك على حيط أو رجلك على أرض، لما الوقت يبقي بالنسبة لك فرصة، والمكان ضربة حظ.. ساعتها وساعتها بس تعرف أنك بقيت وغد..

بس خلى بالك، أصول لعب القمار.. الشجاعة

الشجاعة اللى متهزهاش كترة